د. خديجة شقرة – 8 أيلول 2025 – حين يلتقي الطين والإتصال بالبيئة بالذكاء الإصطناعي، في زمن تتسارع فيه الخوارزميات بوتيرة غير مسبوقة، وتستبدل الواجهات الزجاجية بالموديلات الرقمية ثلاثية الأبعاد، يجد المعماري المعاصر نفسه أمام مفترق طرق: بين ماضٍ طينيّ متجذر في الأرض والهوية، ومستقبل رقمي تقوده الخوارزميات والذكاء الاصطناعي وبين هذا وذاك يأمل إلي الإستدامة.
لكن السؤال الحقيقي لم يعد: أيّ الطريقين نختار؟ بل أصبح: كيف نُزاوج بينهما؟
في هذه المقالة، نحاول تتبع مسارات العمارة المعاصرة بين نقيضين ظاهريين — الطين والخوارزمية — لاستكشاف مستقبل تصميم مدن ذكية، دون أن نفقد الإتصال بالبيئة أو الذاكرة الجمعية.
الطين: المادة التي تتنفس، الطين ليس مجرد مادة بناء بدائية، بل هو تعبير عن حكمة محلية راكمتها قرون من التفاعل بين الإنسان والمناخ. في قرى سيوة أو واحات المغرب أو بيوت اليمن، لم يكن الطين خيارًا اقتصاديًا فحسب، بل وسيلة لإقامة علاقة متوازنة مع الطبيعة: عزلة حرارية، تهوية طبيعية، تكاليف منخفضة، وصيانة محلية.
اليوم، ومع عودة الاهتمام بالعمارة البيئية والمباني منخفضة البصمة الكربونية، يستعيد الطين قيمته بوصفه مادة المستقبل لا الماضي. المفارقة أن ما نعتبره “تقليديًا” قد يكون هو الحل الأكثر تقدمًا في مواجهة أزمات الطاقة والمناخ.
الخوارزمية: الإبداع عبر الذكاء الاصطناعي، في المقابل، يدخل الذكاء الاصطناعي المشهد المعماري بقوة.
أدوات مثل Midjourney، DALL·E، وGrasshopper تسمح بابتكار تصميمات غير مسبوقة، يتدخل فيها الحاسوب شريكًا في توليد الأشكال، محاكاة الأداء البيئي، تتيح تصاميم أكثر إبداعًا ومرونة، تجعل العمارة تفاعلية مع البيئة والمستخدم، توفر حلولًا مستدامة عبر تحسين استهلاك الطاقة والموارد، تساعد في إدارة بيانات المشاريع الكبيرة BIM + Algorithms وتحسين استخدام المواد. لم يعد المعماري يرسم فقط، بل يبرمج ويتحاور مع الخوارزميات. بل إن بعض المشاريع الذكية في تخطيط المدن تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات السكانية، وتوزيع الموارد، وتوقّع أنماط الحركة.
وهناك مجالات استخدام الخوارزميات في العمارة:
- التصميم البارامتري (Parametric Design):
- عبر أدوات مثل Rhino/Grasshopper يتم تعديل المتغيرات (مثل الطول، العرض، الانحناء) لتغيير التصميم بالكامل بطريقة ديناميكية.
- مثال: واجهات المباني التي تتغير تبعًا للبيئة أو زاوية الشمس.
- المحاكاة (Simulation):
- خوارزميات لمحاكاة التهوية، الإضاءة، الطاقة، الراحة الحرارية… لمساعدة المعماري على اتخاذ قرارات أكثر استدامة.
- الهندسة الشكلية (Form-finding):
- توليد أشكال عضوية تشبه الطبيعة (bio-inspired) باستخدام خوارزميات مثل الخوارزميات الجينية أو الذكاء الاصطناعي.
- التصنيع الرقمي (Digital Fabrication):
- ربط الخوارزميات بالروبوتات أو الطابعات ثلاثية الأبعاد لإنتاج عناصر معمارية دقيقة ومعقدة يصعب صنعها بالطرق التقليدية.
لكن السؤال:
هل يحل الذكاء الاصطناعي محل الإبداع البشري؟ وهل بإمكانه فهم الطين كما يفهم الكود؟
المدن بين الواقعي والرقمي
مدن المستقبل تُبنى على تقاطع العوالم: بين الواقع المادي (المواد، التضاريس، المناخ) والعالم الرقمي (تحليل البيانات، الخوارزميات، التوأم الرقمي Digital Twin)
مدن مثل نيوم في السعودية أو كوبنهاغن الذكية، تمثل نماذج عمرانية هجينة، تجمع بين المعالجة البيئية والذكاء الصناعي، لكنها ما زالت تبحث عن “الروح” — تلك التي لا تنتجها الماكينات. إذا غابت الهوية عن التصميم، تصبح المدينة نسخة مكررة من نموذج عالمي مفارق للبيئة والثقافة.
بين الحكمة والابتكار: نحو توازن جديد
الطين يعلّمنا كيف نبني بانتماء. والخوارزمية تعلّمنا كيف نبني بكفاءة.
والعمارة المستقبلية تحتاج كليهما: نحتاج لذكاء يحاكي الشمس والرياح قبل الشكل والواجهة ونحتاج لمعماري يقرأ السحاب، لا فقط الكود. أليس التحدي الأكبر اليوم هو كيف ندمج التكنولوجيا في خدمة الإنسان والمكان، لا العكس؟
يمكن القول إن العلاقة بين الطين والخوارزميات هي جسر بين:
الهوية المحلية (المادة والذاكرة الجمعية) والابتكار الرقمي (الخوارزميات والذكاء الاصطناعي)
فتخرج عمارة جديدة معاصرة ومستدامة، لكنها لا تفقد جذورها. وهناك بالفعل أمثلة ومقاربات معمارية حديثة تجمع بين الاثنين، خاصة في إطار العمارة التراثية الرقمية، والتصميم التوليدي (Generative Design)، والطباعة ثلاثية الأبعاد بالطين
. أذكر منها بعض الأمثلة:
- الطباعة ثلاثية الأبعاد بالطين D3 Printing with Clay
مشاريع في إيطاليا (Mario Cucinella Architects & WASP) حيث يتم استخدام الطين المحلي بتقنيات طباعة ثلاثية الأبعاد لإنشاء مساكن مستدامة ومنخفضة التكلفة. الخوارزميات هنا تتحكم في شكل الجدران ودرجة السماكة والانحناءات لتحقيق كفاءة هيكلية وحرارية، بينما المادة الأساسية ما زالت الطين المحلي.
- التصميم التوليدي المستلهم من العمارة الطينية
في بعض الأبحاث الجامعية مثل MIT و ETH Zurich يتم تحليل أنماط التهوية والإضاءة في المباني الطينية التقليدية كالقباب والملقف. ثم تُستخدم الخوارزميات والذكاء الاصطناعي لمحاكاة تلك الخصائص وابتكار نماذج جديدة أكثر كفاءة. والنتيجة: مبانٍ حديثة بخطوط معاصرة لكن روحها مستوحاة من الفكر الطيني التقليدي.
- الترميم والمحاكاة الرقمية للعمارة الطينية التراثية
تقنيات الذكاء الاصطناعي + المسح ثلاثي الأبعاد3D scanningتُستخدم اليوم في اليمن والمغرب لترميم مبانٍ طينية تاريخية. الخوارزميات تساعد في توقّع مناطق الضعف في الجدران الطينية، واقتراح أفضل طرق التدعيم باستخدام مواد محلية.
- الذكاء الاصطناعي وتحليل الأداء البيئي للمباني الطينية
برامج تحاكي حركة الهواء وامتصاص الحرارة في الجدران الطينية السميكة، ثم الخوارزميات تعطي اقتراحات لتوزيع الفتحات أو شكل القباب لتحسين التبريد الطبيعي. هذا يربط بين الخبرة الشعبية القديمة والتحليل الحسابي المعاصر.
شكل (1) يجسد التقاء الطين مع الخوارزميات والتصميم الرقمي لبعض النماذج المعمارية
خاتمة: من الطين نبدأ، وبالخوارزمية نُطوّر
ليست هناك قطيعة حتمية بين الطين والذكاء الاصطناعي، بين العمارة المحلية والرقمية. بل ربما تكمن القوة في الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين البيئي والتقني، بين الحكمة والخوارزمية.
المعماري الجديد ليس منغمسًا في التراث أو مأسورًا بالتقنية — بل قادر على الإصغاء للطبيعة، والبرمجة بلغة الآلة، والرسم بروح الإنسان.
هكذا فقط، نصمم مدنًا ذكية… لكنها تتنفس.
الكاتب: د.خديجة السيد شقرة.
باحثة وأكاديمية تحمل دكتوراه في فلسفة العمارة، وتعمل مدرّسة بكلية التكنولوجيا والتعليم.