قصة المتحف الوطني للتاريخ والثقافة الأفريقية الأمريكية

عن المتاحف سألوني – كمعماري وناقد وتلميذ في عوالم المتاحف، أتوقف دائما أمام المباني المتحفية لقيمتها ودورها، ولأن تصميمها دائما يمثل محطات فارقة في تاريخ العمارة ومفاهيمها.
يشرفني أن أطرح عليكم اليوم قصة المتحف الوطني للتاريخ والثقافة الأفريقية الأمريكية، وهو المتحف الوحيد في الولايات المتحدة المخصص للتجربة الأمريكية الأفريقية.

“هذا المبنى يغني لنا جميعا أغنية عذبة”
لوني بانش، المدير المؤسس للمتحف

المصدر: د. علي عبد الرؤوف

يضم تصميمه المعماري الفريد مجموعة من الفضاءات عضوية التداخل والمغلفة في شبكة معدنية برونزية تخلق تشكيلات مبهرة من الضوء والظلال وتحمل نقوش من سياقات أفريقية أصيلة. ويضم المتحف 12 معرضا ثابتا و13 معرضا تفاعليا. حيث تحكي المجموعة المكونة من 36000 عنصر متحفي أو رقمي، القصة الأمريكية من خلال عدسة الأمريكيين من أصل أفريقي، وتشمل العروض كل مجالات الحياة من التاريخ والسياسة والدين والعبودية إلى الموسيقى والرياضة والأزياء والفن.

المصدر: د. علي عبد الرؤوف

يقابل الوجود الرمزي للمتحف في الحديقة المركزية في قلب واشنطن (المول)، رمزية المبنى نفسه. فاز المصمم الرئيسي ديفيد أدجاي والمعماري الرئيسي فيليب فريلون، بمسابقة دولية في أبريل 2009 لتصميم المتحف. وتم وضع حجر الأساس في الموقع الذي تبلغ مساحته خمسة أفدنة في فبراير 2012، ثم الاحتفال بالافتتاح الكبير للمتحف في 24 سبتمبر 2016.

نشأ المعماري أدجاي، وهو ابن دبلوماسي غاني، كمواطن عالمي. عاش في مصر وإنجلترا ولبنان وتنزانيا وزار جميع الدول المستقلة البالغ عددها 54 دولة في أفريقيا. ولذلك كوّن فهما عميقا وشموليا ومنصفا لقيمة الأصول الأفريقية وتنوع ثقافاتها وإبداعاتها. ولذا قام الفريق المعماري بدمج مجموعة متنوعة من العناصر المميزة من أفريقيا والأمريكتين في تصميم المبنى وهيكله.

المصدر: د. علي عبد الرؤوف

تستوحى الصياغة المعمارية للمبنى من التيجان ثلاثية المستويات المستخدمة في فن اليوروبان من غرب أفريقيا. علاوة على ذلك، فإن المدخل الرئيسي للمبنى هو شرفة ترحيبية، لها جذور معمارية في أفريقيا وفي جميع أنحاء السياق الأفريقي، وصولا إلى الجنوب الأمريكي ومنطقة البحر الكاريبي. تعمد المصمم تغليف المبنى بأكمله بشبكة معدنية برونزية غنية بالنقوش والفتحات الهندسية المنمقة، ليشيد بالأعمال الحديدية المعقدة التي صنعها الأمريكيون الأفارقة المستعبدون في لويزيانا وكارولينا الجنوبية وأماكن أخرى.

تفتح الشبكة المغلفة للمبنى، أيضا أمام ضوء النهار الخارجي، والذي يمكن تعديله وفقا للموسم. يعمل الضوء المنعكس من الشبكة ذات اللون البرونزي كمنارة للتذكرة بقسوة العبودية ونور الحرية التي جعلت الأفارقة الأمريكيين مبدعين ومساهمين في كل مقومات الثقافة الأمريكية. كما أن الانفتاح على الضوء رمزي الدلالة لمتحف يسعى إلى تحفيز الحوار المفتوح حول العرق والمساعدة في تعزيز المصالحة والاحتواء.

ويذكر الزوار بأن المتحف هو مصدر إلهام، ومفتوح للجميع كمكان للمعنى والذاكرة والتفكير والتأمل والأمل. هذا التصميم أيضا مستدام معماريا، حيث أن المبنى هو أول متحف في منطقة المحور الرئيسي للمدينة (المول) المصمم تبعا لمعايير الاستدامة، وفي عام 2018، حصل المتحف على شهادة LEED الذهبية.

المصدر: د. علي عبد الرؤوف

لقد دمجت العديد من المباني المميزة في العالم شكلها المعماري مع وظيفتها أو غرضها وأيضاً مع المفاهيم والدلالات الرمزية المطلوب التعبير عنها. يتبع المتحف هذا المبدأ بمعنى أن المبنى يحتضن محتواه، وهو القصة النضالية التي تروى من خلال عدسة التاريخ والثقافة الأمريكية الأفريقية. وتجسيدها في مبنى يعبر عن قطاع من المجتمع كان يعامل بقسوة عنصرية، وهو ما يعني تحقيق حلم دام عقودا. وقد تعددت زياراتي لهذا المتحف الرائع وأشعر تماما من مراقبة زواره وخاصة الأفارقة الأمريكيين أن المتحف هو ملتقى مجتمعي يساعدهم على اكتشاف أنفسهم وتاريخهم وثقافاتهم المشتركة، والأكثر تأثيرا، شعور الفخر الشديد بجذورهم وبما يساهمون به اليوم.

 

 

الكاتب: الدكتور علي عبد الرؤوف
كاتب وناقد واكاديمي ومؤلف ومن اهم مؤلفاتي كتاب من مكة الى لاس فيجاس: اطروحات في العمارة والقداسة. وكتاب مدن العرب في رواياتهم.